google.com, pub-6282892942598646, DIRECT, f08c47fec0942fa0 محمد إسماعيل ... المخرج الواقعي الذي يتقن صنع الأحلام | النشـرة الإخبـارية
الرئيسية » » محمد إسماعيل ... المخرج الواقعي الذي يتقن صنع الأحلام

محمد إسماعيل ... المخرج الواقعي الذي يتقن صنع الأحلام

مـدارات سينمائيـة

محمد إسماعيل ... المخرج الواقعي الذي يتقن صنع الأحلام


النشـرة الإخبـارية

عبـد الإلـه الجوهـري


عند الحديث عن الأسماء الوازنة التي ساهمت في تأسيس مسار السينما المغربية و الدفع به إلى الأمام، لابد من ذكر اسم المخرج والمنتج محمد إسماعيل، طبعا إلى جانب الرواد الكبار، كمحمد عصفور ولطيف لحلو وحميد بناني واحمد البوعناني والعربي بناني وعبد العزيز الرمضاني وعبد الله المصباحي ومصطفى الدرقاوي.. وغيرهم من الأسماء التي اشتغلت وعاشت ورحلت في صمت، كأحمد المسناوي ومحمد عفيفي وإبراهيم السايح وعبد الله الرميلي...
محمد إسماعيل، أو عمو، كما يحلو لي وللكثيرين مثلي المناداة عليه، أو الطائر المغربي المغرد المتمرد، في سماوات الخلق والإبداع، والمخرج الواقعي الذي يتقن صنع الأحلام، تجربة فنية طويلة عريضة من الصعب رسم حدودها و تحديد معالمها بدقة وسهولة، إنتاجات غزيرة، موزعة بين التلفزيون والسينما، وحضور وازن في الملتقيات والمهرجانات السينمائية المغربية والدولية، وعطاء إنساني قل نظيره في تبادل لحظات الفرح والسعادة وحب الخير للأصدقاء والخلان والناس أجمعين.
المرء العادل المعترف بأفضال الناس وعطاءاتهم، لا يسعه لحظة الحديث عنه، وإثارة مختلف مراحل حياته الفنية وخلفيات اشتغاله ومعاملاته مع أناس الوسط السينمائي، إلا أن يرفع القبعة عاليا، وينحني احتراما وتقديرا لمبدع خالف الأعراف المرعية في الساحات الفنية المغربية والعالمية، حيث الابتعاد عن محاولات الهيمنة والفهلوة، أو الدفع في اتجاه التنافس الفج و الصراع الخاوي على الجوائز والغنائم والمواقع الإعلامية الفارغة والتصفيقات والزغاريد الخادعة.
منذ بداية سنوات السبعينات من القرن الماضي، ومحمد إسماعيل، يحتل مكانة مرموقة بين صناع السينما المغربية، وأصحاب اللحظات الإنسانية البهية، بدأ أولا، كتقني فنان ومخرج متميز في عوالم التلفزيون والتواصل والإشهار، هذا قبل المرور لدهاليز الإنتاج والإخراج السينمائي المعقد، وتحقيق عدد لا يستهان به، من الأعمال الفنية، مرحلة أولى كانت ضرورية، لكي تجعل منه إنسانا واعيا بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه كمبدع، و فهم القاعدة الأساس بألا يستسهل عمليات الخوض في لجة وأمواج الخلق العاتية، وعدم تحقيق أفلام لا تعكس رؤاه ورغباته في الاختلاف، فتحقق له المراد، أفلام متتالية وتراكمات إبداعية عالية، بداية مع شريط "أوشتام"، الفيلم الروائي الأول له كمخرج، فيلم أو رغبة صادقة حقة في التعبير عن مكنونات الذات، والحسم والتصفية مع أشباح الماضي وذكريات الزمان والمكان، قبل الحسم والمرور نحو معالجة مشاكل المجتمع، ورسم معالم الوقت الفاني وإدانة قبح التكالب والطمع وكل الأشياء الممسوخة المشوهة، بلغة تتوسل الوفاء للواقع وتصويره بطريقة فنية تستلهم مبادئ الواقعية الايطالية كما تشبع بها سنوات الدراسة والمشاهدة الواعية.
"أوشتام"، لم يكن فيلما ككل الأفلام، بل محاورة صادقة، لمرحلة زمنية منقضية، وحكي عن التقاليد البالية، ومقاربة حاذقة لكيفية نشر مفاهيم حب الأوطان، والانتصار لمعاني التآلف والاحترام، وقبل ذلك الوفاء للتاريخ والأهل والخلان. فيلم صادق صدق عواطف المخرج النبيلة تجاه ماضيه الساكن في الأعماق، وتصوير انبهاري بجذر الطفولة وتكريس لجمال الطبيعة وغناء الطيور على الأفنان.
تجربة أولى، حاول البعض محاكمتها فنيا واعتبارها محطة ساذجة تقنيا، لكنها لم تكن كذلك، بل كانت، في اعتقادي، مرحلة ضرورية أمام محمد إسماعيل، لفتح الباب على مصراعيه للنفاذ نحو قلب المعرفة السينمائية الحقة المجربة، وامتلاك أسرار ترويض الآلة التقنية، ورفع راية التحدي عاليا، والسير قدما على طريق ركوب صهوة الصعب والمركب، فكان الذي كان، حيث سارت المجريات، بكل نجاح، باتجاه توقيع شريط "وبعد"، الذي حقق له شهرة طاغية وجوائز هامة في الدورة السابعة للمهرجان الوطني للسينما بوجدة سنة 2003، وهي: الجائزة الكبرى وجائزة الإخراج و جائزة السيناريو، فيلم توفرت فيه كل مقومات النجاح الجماهيري و قبله النقدي، وبطولة أجود الممثلين المغاربة: رشيد الوالي و محمد مفتاح و محمد مجد و نعيمة المشرقي و محمد بصطاوي و سعيد باي و سهام أسيف...، إلى جانب الحضور الآسر للنجمة الاسبانية فيكتوريا ابريل بكل تجربتها وألقها العالمي. فيلم بسيناريو جريء ومقاربة غير مسبوقة لموضوع الهجرة والمهاجرين، ورؤية واعية لظروف المرحلة التي أنتجت لنا هذه الظاهرة المربكة المميتة. فيلم تحدث عنه محمد إسماعيل على الشكل التالي: "اعتقد أن جرأة سيناريو فيلم "وبعد" وجودة المعالجة السينمائية، هما وراء إعجاب الجمهور والنقاد به، فهو يناقش حلم الهجرة إلى اسبانيا لدى الشباب المغربي كهدف في حد ذاته، وكيف أن الحلم إذا لم يصاحبه العمل الجاد والرؤية الصحيحة، لا يرقى إلى مرحلة الواقع وهو ما يحدث عند رؤية جثث الشباب المغربي ملقاة عند البوغاز الواقع بين ضفتي المغرب واسبانيا".
نجاح لافت، فتح أمام هذا المخرج التطواني العاشق للتفاصيل السينمائية الصغيرة والكبيرة في الخلق والإبداع، الأبواب للعودة و الخوض في نفس موضوع الهجرة، من خلال شريط "هنا ولهيه"، لكن هذه المرة من زاوية أخرى، زاوية التمزق و التشتت بين الهنا والهناك، بين التقاليد الأصلية والعادات الغربية المكتسبة في الوسط المجتمعي الفرنسي، بين الأهل في أرض الأجداد والأبناء المتمردين على السلطة الأبوية وكل الأعراف التراثية. فيلم لم يكن في مستوى نجاحات العمل السابق لا فنيا ولا جماهيريا، لكن كان له فضل تسليط الضوء على جراحات جاليتنا المقيمة في الديار الأوروبية، وإثارة الانتباه لمعاناتها الجارحة.
الهجرة ثم الهجرة، الموضوع الشاغل الأهم لبال محمد إسماعيل، لكن هذه المرة من موقع هجرة المغاربة اليهود، ووهم الرحيل نحو أرض الميعاد، موضوع أو الهدف الثالث لهذا المخرج المتعنت المتمسك بقضايا التاريخ و الوطن، عبر فيلم "وداعا أمهات"، الذي جاء أكثر حرفية وإنسانية، من الفيلمين السابقين، بل قصيدة سينمائية غنائية حزينة عن ألم الفراق والغربة وترك بلد الأحباب والأجداد. قصة متفردة عن الركض نحو السراب، سراب جنة موعودة على أرض مغتصبة.عن جموع قادها إيمانها الديني ومؤامرات المخابرات الصهيونية والغربية عامة إلى عيش تجربة قاتلة، الغرق للبعض في مياه المتوسط و التشرد و الضياع في صحراء الكابوس الإسرائيلي الآثم للآخرين,
الشمال المغربي و مشاكله المجتمعية الشائكة، لم تحتل فيه هواجس الهجرة والمهاجرين المساحة الأوفر والأكثر اتساعا، بل انفتح أيضا، اهتمام محمد اسماعيل، على قضايا اخرى شائكة، كالبطالة والعطالة والخروج عن سكة الحياة القانونية المتمثلة في التطرف و القتل والحب المنتزع من بين الترائب والأحشاء، باستخدام المال الحرام و السلطة الكافرة و الضغط و الترهيب وتنكر الأهل لبناتهن وهن في سن طرية غضة، ونساء وجدن أنفسهن في مراكب الموت ومتاهات التهريب، وضرورة الصراع لربح لقمة العيش والبقاء على قيد الحياة.. أفلام تالية قدمت بتلخيص بليغ، مآسي الحياة وسخرية القدر في تحويل أعز الناس مكانة، لأكثرهم ذلا وخضوعا للنزوات القاتلة وتكالب المصالح الفانية.
أفلام انتصر لها في معظمها، الجمهور الواسع، و تنكر لها النقد العالم العارف، و ذلك في إطار مقارنتها مع الأفلام السابقة التي صنعت مجد محمد إسماعيل و شهرته الطاغية، وهي أفلام:"أولاد البلاد" و"الزمن العاقر" و"إحباط ".. ثلاثية جاءت في مرحلة تغيرت فيه موازين القوى والحكم على الإبداع، مرحلة الضرب من تحت الحزام و زرع في الطريق الأشواك، مرحلة كتبت بعرق و تعب البحث عن التمويل، وتعقد وتشابك مسطرة الحصول على الدعم، والجحود الآثم، وعدم الالتفات لعطاءات مخرج أظهر تفوقه وصدقه في أفلامه السابقة، بل ونزاهته في صرف أموال الدعم، مقارنة مع الكثير من تجار الفن، الذين انبطحوا عند أبواب السادة الكبار، وانزلوا السراويل أمام عرابي المنح وأوصياء الصناديق المشبوهة الملغومة.
لكنها أفلام جاءت ناضحة واضحة، ومرافعات بليغة في إدانة القبح: "أولاد البلاد" أو حلم الشباب المنهار، والشواطئ المغربية الشمالية المفتوحة على كل أشكال التهريب و تصفية الحساب، "الزمان العاقر" ومعاناة المرأة المغربية مع الأهل والخلان والتقاليد البالية والأحكام المصادرة للحرية في العيش والاختيار. "إحباط " أو الشيزوفرينيا القاتلة والماضي الذي يرزح بكلكله على الصدور والنفوس، فيحول اشرف الناس و أكثرهم انتصارا للحياة السوية، إلى قتلة لايعرفون ما يفعلون ولا كيف يتصرفون.
لمحمد إسماعيل فضل العفة و خفة الروح، له ما ليس لغيره من الأنفة و عدم البكاء بين الأطلال أو التوسل بالأكابر و المسخ و الأولياء ، له حب عشرات المهنيين الذاكرين للأفضال، والشباب الحالم بصنع سينما مختلفة، و تسطير تجارب اعتمادا على دعمه و سنده السينمائي القوي البرئ، له مني وكل عشاق السينما الأوفياء، عمق المحبة الراسخة والمشاعر الجياشة النابعة من الصدق الحق، في تذكر مشاهد المساعدة و المساهمة و المعونة لتحقيق الأشرطة...
اذكر هنا ظروف انجاز شريطي الروائي القصير الأول: "كليك ودكليك"، حيث كان في مستوى الطلب والمساعدة، كان نعم الصديق المساند رغم ضعف الإمكانيات ومواجهة تفاصيل حرب فنية وإدارية مفروضة وموجهة من مسوخ بكل خسة وعناية، له مني ومن كل عشاق الفن والوفاء والزمرة الصادقة الباحثة عن منبع النور، آيات العشق وعناق سماوات الإبداع، بقدر ما أعطى للبلد ورسخ من مفاهيم الحب والود ورسم بسعة مفاهيم الجد والحلم، المنفتح على الرغبات الأصيلة، والعواطف الجياشة المزينة بأضواء المسامحة، والمرصعة بلغة نكران الذات وتكريس الحياة لصنع الأجمل، وكل ما له علاقة بالتدبير الرباني، المنفتح على فعل الخير السامي البعيد كل البعد عن تفاصيل البحث أو توسل التصفيق، أو أي شكل من أشكال رد الجميل وانتظار المقابل الواهن الفاني.

عبد الإله الجوهري

ساهم بنشر المشاركة :

0 التعليقات:

إرسال تعليق