google.com, pub-6282892942598646, DIRECT, f08c47fec0942fa0 لقاء مع القراء (1): ثمة جراح لا تشفى | النشـرة الإخبـارية

لقاء مع القراء (1): ثمة جراح لا تشفى


   السبت 05 مايو 2018

مقـالات الـرأي ..

لقاء مع القراء (1):
 ثمة جراح لا تشفى

النشـرة الإخبـارية
 غادة السمان
  
ثمة عدة سطور تسيل مودة لأبجديتي يكتبها قارئ، تحرك جرحاً لا يمكن له ان يندمل وهو جرح الحرب..
يكتب لي مثلاً الصديق عمرو ـ سلطنة عمان قائلاً: كنت أنوي أن أقتبس بعض الجمل والعبارات من «كوابيس بيروت» (وهي رواية لي وأول رواية عن الحرب اللبنانية فقد بدأت بنشرها عام 1975 مسلسلة في مجلة «الأسبوع العربي» ثم أصدرتها في كتاب عام 1976) ويفسر عمرو السبب الذي كاد يدفعه إلى اقتباس بعض الجمل والعبارات منها قائلاً: «لأننا نمر بذكرى إنفجار الحرب الاهلية اللبنانية»..

عشاء على ضوء الشموع؟ يا للهول!

يا عزيزي.. الحرب اللبنانية ليست ذكرى عندي لأنني ما زلت أعيش جراحها وغصاتها وأتعاطف حتى الاختناق مع كل من يعايش حرباً كهذه لأنني أعرف أنه سيظل يتألم حتى رحيله إلى الكوكب الآخر.. لدي أمثلة أعيشها ولا تخطر بالبال إلا لمن تحدث له. قبل الحرب كنت أحب العشاء على ضوء الشموع وأحب في دمشق مطعماً قرب مبنى «البرلمان» اسمه (كاندلز) أي «شموع» أما اليوم فقد صار عشاءً كهذا مصدر ألم لي..
ففي الحرب تنقطع الكهرباء ونلجأ إلى الشموع التي لم تعد تعني لي الرومانسية بل القهر وصوت القصف، وموت الاختراعات الحضارية والسلوك الحضاري.. وحين تلقيت في باريس دعوة لتكريمي في عشاء على ضوء الشموع في مركب يبحر بنا نهر السين روّعـــــني ذلك مرتــــين.. إذ لم يعد بوسعي أن أطيق أيضاً المراكب وحتى اليخوت بعدما انفجــرت قذيفة في باحة مدرسة إبني وكان صبياً صغيراً وقررنا الرحيل، والمطار مغلق فحجزنا على باخرة تنطلق من «الحمام العسكري» في بيروت إذ تم إغلاق المطار ومرفأ بيروت بعد تحولهما إلى ساحة حرب..

المراكب حلم رومانسي أم ذكرى رعب؟

وهكذا غادرنا بيروت إلى لارنكا في باخرة للمواشي لأن باخرتنا التي يفترض أن تقلنا بعيداً عن الحرب إلى لارنكا ـ قبرص ـ اختطفتها إسرائيل لفدائيين فلسطينيين كانوا يستقلونها وهم في طريقهم إلى بيروت.
في باخرة المواشي، كادت رائحة محروقاتها الرخيصة تقتلنا اختناقاً ناهيك عن تحركها البطيء في البحر ثم ان القصف لاحقنا وهطلت القذائف حول الباخرة وانفجرت في الماء حولنا.
في لارنكا تعرضنا لتفتيش طويل دقيق خوفاً من نقلنا للأسلحة والمخدرات ولم يكن معي غير مخطوط رواية جديدة وكنت أتمسك بها كما يتمسك الغريق بطوق نجاة فالكتابة عكازي وسلاحي الوحيد في مواجهة عالم متوحش وهمجي أحياناً.

تبنيت رشاشاً في سريري!

كل ما تقدم ذكّرتني به رسالة طيبة محبة من الأديب عمرو ـ سلطنة عمان الذي لن أذكر إسمه الكامل (وأعرفه) لكنني أكتب الإسم الذي يوقع به عادة مراسلاته مع «القدس العربي». وسطوره المختزلة عن كوابيس بيروت أعادتني إلى يوم إضطر زوجي للرحيل من بيروت بعدما صار مهدداً بالقتل لأسباب فكرية وبقيت وحدي في البيت مع طفلي فحملت رشاشاً وذهبت إلى شاطئ البحر البيروتي وتدربت على إصابة الهدف على عدة براميل وضعها مسلحون لتدريب أتباعهم بل وتعلمت (فك أقسام) أي فك الرشاش وإعادة تركيبه ناهيك عن تزويده بخزان الرصاص.. وصار (الكلاشنكوف) ينام إلى جانبي في السرير بالإضافة إلى راديو (ترانزستور) لأستمع في الصباح الباكر أين أستطيع التجول والطريق (سالكة وآمنة) أم لا وكان المذيع الكبير الراحل شريف الأخوي يدلنا اليها.. وأعتقد أنه كان يستحق تسمية شارع بيروتي بإسمه فقد أنقذ حياة الكثيرين من الموت من درب قناص ما وأنا منهم.
وحتى اليوم ما زلت في باريس أنام وإلى جانبي (ترانزستور) وحين أصحو وقبل أن أغادر فراشي أستمع إلى نشرة الأخبار!
إنها جراح الحرب التي لا تشفى..

خبز الليل وماء الليل…

عاملتي المنزلية الفرنسية تضحك بدهشة حين تدخل إلى حمامي لتنظيفه. ففيه باستمرار 200 زجاجة مياه معدنية!! فالماء لم ينقطع يوماً في باريس، كما حدث لنا أيام الحرب اللبنانية. ولست بحاجة إلى طبيب نفساني يفسر لي حاجتي في البيت إلى 200 زجاجة ماء كي أنام مطمئنة. وصرت أضع إلى جانب سريري حين أنام ماء الليل وخبز الليل، ففي إحدى الفترات صار (طابور) الذين ينتظرون دورهم لشراء الخبز هدفاً لقناص.. وأعيش منذ عقود في مدينة جميلة هادئة هي باريس وقبلها في جنيف لكن جراح الحرب لا تندمل يوماً.. ولذا أتعاطف مع ضحاياها في وطني الأم ناهيك عن أوطان عربية أخرى.

بين جراح الماضي وجراح الحاضر

أعود إلى كوابيس بيروت الماضي وكوابيسي دائماً.. حيث صار بيتي أيام الحرب الأهلية موقعاً حربياً بين المتقاتلين في «برج المر» ضد مقاتلي فندق «هوليداي إن» وانفجرت قذيفة في غرفة مكتبتي وفشلتْ في قتلي لأنه تصادف أن كنت في طرف آخر من الموقع العربي (أي بيتي)، وحين غادرته بأسى أدركت أنني لن أشفى من ذلك الشعور الألــــيم: هــل ســــيبقى بيتــي في موضعه؟ هل سأعود إليه يوماً؟ وأتعاطف مع الذين يضطرون لمغادرة بيوتهم للنجاة بحياتهم.. وأنا أعرف مدى ألمهم حينما يحتارون: ما الذي سيحملونه معهم من تاريخ طويل مع البيت وقد لا تتسع سيارة الهرب لأكثر من أجسادهم المحشورة فيها كعلبة سردين.. فقد غادرت بيتي في ملالة عسكرية للنجاة من القناص!..
وأتمزق حين أقرأ عن تشرد بعض أبناء وطني الأم سوريا ناهيك عن أبناء فلسطين والعراق واليمن وليبيا.. وكل أرض عربية شبّت فيها الحرائق.. وإسرائيل ترقب ما يدور ثملة بموتنا.. وتتابع قتلها الفلسطينيين والتنكيل بهم.
وشكراً لرسالة عمرو ـ سلطنة عمان التي أتاحت لي الفرصة لتعرية جراح لن تشفى يوماً.. وإلى اللقاء مع القراء في الأسبوع المقبل أيضاً..


0 التعليقات:

إرسال تعليق